الروح القدس ـ مُدبر الكنيسة في عهديها القديم والجديد ـ علَّمها وقادها لممارسة الصوم بأشكال مُتنوعة، ولأهداف مختلفة. وأذاقها قوة وفاعلية الصوم عندما تمارسه وفق مشيئة إلهها، ممتزجًا مع الصلاة والقداسة. الأمر الذي نقرأه في (إش 58) حيث يُقدِّم لنا صورة الصوم المقبولة وبركاته.
ثم نراه عمليًا في ملء صورته الصحيحة، عندما اقتاد الروحُ المسيحَ يسوع للبرية ليُجرب من إبليس، صائمًا مُصليًا، فأنتصر على المجرِّب لحساب الكنيسة، وسلَّمها أسلحة الغلبة والانتصار (مت 2،1:4).
وعبر رحلة الكنيسة من آدم ليومنا هذا، مارست الكنيسة الصوم بشكل فردي… كما صام موسى ليتهيأ لاستلام لوحي الشريعة مرتيْن (تث 18،10،9:9)، وكما صام إيليا ليتهيأ للقاء وتكليف جديد من الرب (1مل 8:19)، وكما صام داود لأجل ابنه (2صم 16:12)، ودانيآل طالبًا الفهم (دا 3:9).
وبشكل جماعي… كما صام سكان يابيش جلعاد بعد مقتل شاول وأولاده (1صم 13:31)، وشعب نينوى حيث صام الجميع من الصغير للكبير وكذلك الحيوانات (يونان 5:3-7). كما صامت الكنيسة في أنطاكية لتُرسل برنابا وشاول مؤيَّدين بقوة الروح، للعمل الذي دعاهم إليه الرب (أع 3:13).
صام شعب الله أفرادًا وجماعات، لأهداف شخصية وجماعية، مرات لساعات أو أيام قليلة (أع 30،10:10)، ومرات لأيام طويلة امتدت لأربعين يومًا بلا طعام أو شراب.
لكن بعد مجيء المسيح يسوع للخلاص، صار لشعب الله مشغولية أبدية تخص خلاص النفوس، الذي هو غاية إيماننا. لهذا رتب آباء الكنيسة منذ القرن الأول أصوامًا جماعية بهدف الامتلاء المستمر بالروح القدس، وتتميم الخلاص، وامتداد الكرازة بقوة الروح. لهذا نجد صوم الروح القدس، وصوم يومي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع، من أقدم الأصوام التي مارستها الكنيسة. ثم ترتبت أصوام أخرى عبر تاريخ الكنيسة، مُرتبطة بمفاعيل الخلاص الذي أكمله المسيح بتجسده وصلبه وقيامته وإرسال الروح المعزي، حتى ما يتهيأ شعب الله بالصوم والصلاة لاقتبال النعمة المخلِّصة، لتنمو الكنيسة دون توقف. لذا رأينا عملاقية الإيمان في الكنيسة في قرونها الأولى، ليس على مستوى أفراد هنا وهناك، بل كحالة عامة غالبة.
وقد رأى آباء الكنيسة الفطنين، أن حاجتنا هي أن يصير الصوم منهج حياة دائم، وليس لمعالجة مشاكل طارئة، وذلك لتتميم الخلاص، والعودة للحالة التي جُبل عليها الإنسان الأول، حيث علمه الله أن يأكل من البقول وثمار الشجر (تك 29:1)، وذلك بهدف ضبط وصلب الجسد مع الأهواء والشهوات، حتى ما تتحول الروح لله بجوع وعطش لا يكف، وتنطلق الروح من حبوسها الداخلية والخارجية لحرية مجد أولاد الله.
لهذا نرى أن آباء البراري عاشوا كل أيامهم صائمين مُصلين ساهرين لتتميم خلاصهم وخلاص العالم. قدَّموا ذبيحة الصوم، ليس ثمنًا لاقتناء الروح القدس، لكن لتتهيأ النفس لحلول الروح فيها. وكما كانت شهوة البطن سببًا لسقوط آدم وحواء، إذ أكلوا من ثمرة شجرة معرفة الخير والشر، فإن الصوم هو بداية الطريق لاسترداد الفردوس المفقود، ولهذا بدأ المسيح خدمته بالصوم.
ونرى في أيامنا تعاليم متنوعة عن الصوم وكيفية ممارسته، بعضها سليم، وبعضها بحاجة لمراجعة وتقويم. لكن بالعودة لتعليم آباء الكنيسة الأولى، نفهم أن الوسطية والتدرج والانتظام هو الطريق المؤمن والمثمر والقابل للاستمرارية. لذا لمن يرغب أن يجعل الصوم أسلوب حياة، يمكنه أن يبدأ بالصوم يوم من كل أسبوع، منقطعًا عن الطعام والشراب لبضعة ساعات، ثم يتناول أطعمة نباتية. وهكذا يتدرج بقدر ازدياد النعمة المعينة والمرشدة، ليس لتحقيق إنجاز بشري لحساب الذات، بل لتحقيق حضور المسيح فينا ونقصان الذات “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في” (غل 20:2).